يشكل الدين أحد أهم الركائز – الأسس - لدى الإنسان المعاصر ، نظراً
للتغيرات السريعة المستجدة في حياة المجتمعات وبنائها السريع ، مقارنة مع
ما كانت عليه في السنوات السابقة التي تميزت ببساطة الحياة .
فالتغيرات السريعة في سِياق مناحي الحياة المتنوعة التي أحدثت انقلابات
شبه جذرية في تلك المجتمعات ، والتي طالت خلالها القواعد والقوانين والقيم
الاجتماعية ، وكل ما يتصل بتنظيمها ، مما يستدعي بشكل ملح العودة إلى
الدين ، لتنظيم حياة الناس وإضفاء حالة الطمأنينة والهدوء عليها بعد أن
فقدوها .
الدين والروابط الأسرية :
معظم الناس على دراية ومعرفة تامة بما للدين من تأثير فعَّال على سلوك
أفراد مجتمعاتنا ، وتكوين أفكارهم وأسلوبهم في الحياة ، وتعاملاتهم في
دقائق الأمور اليومية ، وأغلب ما يصدر عنا من تصرفات إنما هو نتاج يتدخل
في معظمه عامل التشبع بالدين ، فهو شريعة تملأ الحياة في عباداته
ومعاملاته وأحواله الشخصية .
وعليه فهو ينظم سلوك الزوجين داخل الأسرة الواحدة على مستوى التربية ،
والتعامل ، واكتساب القيم ، وإقامة العلاقات والروابط داخل الأسرة ،
والعلاقات بين الأهل والمقربين .
إذن فالعائلة ليست عشّاً جسدياً للأولاد فقط ، بل عشّاً نفسياً أيضاً ،
يتعلمون فيه من الأبوين ، ويتربون بأخلاقهما وسلوكهما ، لذا وجب على
الوالدين تحسين سلوكهما حتى لا يخرج الأولاد منحرفين .
فالدين على ضوء ذلك هو القاسم المشترك للسلوك إزاء مواقف الحياة
المختلفة في التربية وإقامة الروابط والعلاقات داخل الفرد نفسه ، وبينه
وبين شريك حياته ، وبينه وبين أولاده ، حتى تمتد العلاقات والروابط نحو
الجار ، وباقي أفراد المجتمع .
لذا فإن أسس تكوين الروابط اللاشعورية المعتمدة على الدين والمستمدَّة
منه ، مقومات بقائها تبدأ من داخل الأسرة الصغيرة - الأب والأم - ، فأي
اختلال في تنظيم العلاقات والروابط داخل الجهاز الأسري يسهم في إحداث
الاضطرابات والمشكلات النفسية والاجتماعية لاحقاً .
فالأسرة تمتلك فعلاً قوياً ، وأسلوباً خاصاً بها ، يحدِّد طبيعة اتصال
أفرادها ، وكيفية التعامل مع بعضهم البعض ، أو مع الآخرين خارج نطاقها ،
والإسلام هو الدين الوحيد الذي انفرد عن باقي الأديان ، وذلك من خلال وضعه
أسس هذه التعاملات والعلاقات والأدوار .
وبناءً على ما يعطيه من دور للرجل أو المرأة ، أو الابن الأكبر أو الأصغر ، أو البنت ، حتى تم تنظيم هذه الأدوار بشكل لا شائبة فيه .
وتحقق ذلك واقعياً من خلال سلوك أفراد المجتمع ، فإن كبيرهم يعطف على صغيرهم ، وصغيرهم يحترم كبيرهم .
ثم وضع الضوابط الاجتماعية القيمة داخل الأسرة ، وامتدت إلى المجتمع
الأوسع ، فكان أن ظلَّ النسيج الاجتماعي محافظاً على تكوينه رغم التغيرات
العاصفة ، وموجات التمرُّد والتنافر .
الأسرة واكتساب القيم والعادات :
إن الأسرة هي المسؤولة عن بثِّ روح المسؤولية واحترام القيم ، وتعويد الأبناء على احترام الأنظمة الاجتماعية ، ومعايير السلوك .
فضلاً عن المحافظة على حقوق الآخرين ، واستمرارية التواصل ونبذ
السلوكيات الخاطئة لدى أبنائها ، مثل : التعصب ، الذي يعدُّه البعض
اتجاهاً نفسياً جامداً ، ومشحوناً وانفعالياً .
وكذلك ظواهر أخرى تعد محرمة دينياً ، أو التقرُّب منها يُعد عدواناً
على حقوق الغير ، فمن أجل ذلك ينبغي التعامل مع أسُس القيم المرغوبة على
أنها سلوكيات صحيحة ، والتعامل معها بثبات لتترسَّخ قواعد هذا النظام ،
وهذا يتطلب من الكبار الذين يتعاملون مع الطفل أن يكونوا القدوة والمثال
في هذا الشأن .
فعلاقة الوالدين أحدهما بالآخر لها الأهمية الكبرى في نسق اكتساب القيم
من خلال التربية ، وتوافقهما يحقِّق للأبناء تربية نفسية سليمة خالية من
العقد والمشكلات التي لا تبدو واضحة للعيان آنياً ، وإنما تظهر نتائجها
بشكل واضح مستقبلاً .
أما عن القيم التي تعلمها الأسرة لأبنائها فهي عبارة عن مفاهيم تختص باتجاهات وغايات تسعى إليها ، كاتجاهات وغايات جديرة بالرغبة .
وتعد القيم بمثابة المعيار المثالي لسلوك الفرد ، ذلك المعيار الذي
يوجه تصرفات الفرد وأحكامه ، وميوله ورغباته ، واهتماماته المختلفة ،
والذي على ضوئه يرجح أحد بدائل السلوك ، وإن الفعل أو السلوك الذي يصدر
عنه وسيلة يحقق بها توجهاته القيمة في الحياة .
لذا تُعدّ الأسرة من أهم المؤسسات الاجتماعية التي تحدِّد لأبنائها ما ينبغي أن يكون في ظل المعايير السائدة .
فمن القيم التي تكسبها الأسر المسلمة لأبنائها ، السلوكيات الاجتماعية
المتعلقة بالأخلاق ، والدين والتعامل مع الآخرين ، وآداب المجالسة والوفاء
والإخلاص ، فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) : ( لأخِيكَ عَلَيكَ مِثْلَ الَّذِي لَكَ عَلَيهِ ) .
وقال ( عليه السلام ) أيضاً : ( مَنْ لانَتْ كَلِمَتُهُ وَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ ) .
أثر الأسرة في التنشئة الاجتماعية :
إن آفاق التربية الأسرية تمتدُّ عند بلوغ الطفل سِنَّ السادسة من العمر
، حيث يلتحق معظم الأطفال بالمدارس أو مراكز التعليم المختلفة ، فتكون قيم
الأسرة التي زرعتها في أطفالها قد أثمرت ، لتجدَ نفسها أمام مَحك التطبيق
العملي الميداني .
وعند التساؤل عن العوامل الأساسية المسؤولة عن تكوين الصفات - الفضائل
والرذائل - ، وسيطرتها على شخصية الفرد في التعاملات اليومية ، نجدها
تتحدد في ثلاث فئات أساسية ، وهي :
الفئة الأولى : المحددات البيولوجية ، وتشمل الملامح أو الصفات الجسمية كالطول والوزن .
الفئة الثانية : المحددات السيكولوجية النفسية ، وتتضمَّن العديد من الجوانب كسمات ، الشخصية ودورها في تحديد التوجهات القيمية للأفراد .
الفئة الثالثة : المحدِّدات البيئية ، حيث يمكن تفسير أوجه التشابه والاختلاف بين الأفراد في ضوء اختلافات المؤثرات البيئية والاجتماعية .
فالتنشئة الاجتماعية هي امتداد لتربية الأسرة في البيت ، حتى سميت
بالتنشئة الأسرية ، وهي أولى مهام التنشئة الاجتماعية ، وقد تبيَّن أن
هناك علاقة بين أسلوب التنشئة الاجتماعية ، وما يتبنَّاه الأبناء من قيم .
فالأسرة كمؤسسة اجتماعية لا توجد في فراغ ، وإنما يحكمها إطار الثقافة
الفرعية التي ينتمي إليها ، كما يتمثل في المستوى الاقتصادي الاجتماعي ،
والديانة وغير ذلك من المتغيرات .
الدين وعوامل التنشئة الاجتماعية :
من المتَّفَق عليه أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يتأثر ويؤثر
اجتماعياً ، فيتأثر بأهله وبمجتمعه وبتاريخه ، وبكل ما يحيط به ، ليؤثِّر
أخيراً في بناء شخصية أبنائه ، ومن ثم في حياتهم ، فيرسمُ لهم الأطر التي
ضمنها يتحركون .
وقد ثبت علمياً بأنَّ الأسر التي يطغى على تربيتها عوامل التشتت
والتفكك تؤدي بالأبناء بمرور الزمن إلى اللامبالاة ، أو عدم الاهتمام ، أو
النقيض التام ممَّا تعلموه في طفولتهم ، وهو التقيد والتمسك بالتقاليد ،
ودقَّة المواعيد ، وإِتْقان الواجبات الحياتية بأدقِّ الصور .
وهناك بعض السمات التي تبدو واضحة على شخصية الأبناء الذين تلقوا
التربية في ظِلِّ ظروف غير اعتيادية ، مثل الأسر التي يتعاطى فيها أحد
الأبوين الكحول .
حيث من المحتمل أن تعصف المشكلات الخطيرة بكيان الأسرة ، وتهزُّ أركان
تماسكها ، فهو مرض اجتماعي خطير ، يؤثر بشكل سلبي على نسيج العلاقات
الاجتماعية السائدة في المجتمع .
ولكن تبقى المكونات الفردية التي ينشأ عليها الأطفال أثناء تلقيهم
التربية بأنواعها ، ومدى تقبُّلهم أو رفضهم لتلك العوامل المؤثرة مباشرة ،
فهي التي تحدد سلوكهم ، فضلاً عن التنشئة الاجتماعية خارج الأسرة التي
تصقل الخبرات الأولى التي تعلمها من الأسرة ، وكذلك تأثير الأقران في ذلك
الصقل .
وعند تحليل المكوِّنات الفردية والعوامل الخارجية المؤثِّرة نجد أن
الأولى تسمى المكونات الذاتية ، والثانية العوامل الخارجية الموضوعية ،
فالشخصية في تصرفها تسلك على وفق هذين المؤثرين الذاتي والموضوعي .
ولكن يبقى العامل الآخر الأهم - والذي يعد المؤثر الأكبر في التكوين في
مجتمعاتنا - الذي هو توكيد النزعة الأخلاقية ، التي يلعب الدين فيها دوراً
مهماً ، ومنهج القرآن الدور الأكبر .
والقرآن دقيق الوصف لنفوس الأفراد والجماعات ، ووصفه ينطبق على نفوس
الناس في كل زمان ومكان ، لأنَّه يتماشى مع وصف خصائص النفس وصفاتها
الموروثة والمكتسبة .
فالقرآن يحض على تهذيب النفس ، حيث قال عزَّ وجلَّ : ( إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الرعد : 11 .
وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( النَّاسُ صِنْفَان : إمَّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ أوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الخَلْقِ )